هذا الطفل في داخلي يأبى أن يكبر، يظل يصرخ كلما تركته وحيدًا دون أن أشبع له رغباته الطفولية، يدفعني ويلوي لي فمه، كأنه يطردني من شبابي لأعود أحبو له على ساعدين وساقين ..
لا رغبة لي بالنوم الآن، انقضى الليل وطلع الصباح ولا زلتُ أتقلبُ فوق سريري هذا، أضع في أذني سماعات الهاتف وأستمع لأغاني سبيستون، وتدمع عينيَّ إذ أعود بالذكريات لذلك الزمن الجميل، وأحس برغبة في داخلي لنسيان كل شيء، والتعايش مع هذه اللحظات للأبد..
لقد سئمت لعبة الكبار هذه التي أحياها، وسئمتُ من فكرة أنني كبرت ولم يعد بمقدوري التصرف بحركات الأطفال الحمقاء، لقد تكبلت بقيودٍ عديدة وسيطر التزامي واتزاني على تصرفاتي..
أصبحت أضع ألف حساب لأي حركة أتحركها ولأي خطوة أخطو بها، وأضع في الحسبان كلام الناس، وما يعود على نظراتهم لي..
أشعر بالحيرة الشديدة، والرغبة الماسة للبكاء الذي لا ينتهي مع انتهاء ماء العين أو حتى الجسد، لدي استعداد لأن أضحي بدمائي أيضا في سبيل البكاء!
غصة كبيرة في داخلي، كثير من الأشياء تعكر علي حياتي، غير أن المشكلة الأكبر أني أجهلها، أو أني أعرفها لكني لا أستطيع وصفها بالشكل اللائق المقنع!
لفترة طويلة لم يعد يسعفني حتى حرفي على الفضفضة وإفراغ ما في قلبي من هم وحزن.. سيطر علي جمود كبير وطويل .. كأن قلمي أصيب بحادث مؤسف فألقي في العناية المركزة لعله يتماثل للشفاء لكن دون جدوى .. مات قلمي ومات معه قلبي، لم أكن أعلم أن حياة الكاتب مقرونة بقلمه، وأنه إن تجمد قلمه تجمد هو!
إني واحد من الأشخاص الذين لا يجدون قدرة على التعبير الشفوي عنهم، ولو أن أحد الصحفيين طلبني لمقابلة صحفية فإني سأتلعثم كثيرا وسأصبح أضحوكة للناس!
إني من أولئك الصامتين الذين لا يجدون من "يفش غلهم" سوى الكتابة! ومن دونها يصبحون ككهف شديد السواد، مليء الوحشة، غريب المعالم، لا شكل له ولا مأوى فيه ولا أمان..
وها أنا مع كل الأسف أحس كأن صخرة كبيرة فوق صدري، تفقدني القدرة على التنفس بالشكل المريح، وأحس كأن جمرة في رأسي يغلي دماغي من أثرها، كلما سحبت نفسا من الهواء أحس برأسي يشتعل، فأزفره سريعا كما يزفر مدخنو الأرجيلة دخانهم!
لقد ذبحني هذا الركوض، وأوجعني هذا الكتمان، وضاقت بي الأرض بما رحبت، فلم أعد أجد من أفرغ عنده كبتي بعد أن خانني هذا القلم الذي ظننته الصديق الوحيد الذي لا يرحل ولا يخون!
لم أعد أشعر بالراحة مع أحد من عامة الناس، ولا حتى أولئك المقربون الذين لطالما ظننت أني عزيز عليهم، لأكتشف أني كنت كذلك حين كنت أملك المال الكافي لجعل سهراتنا مكتظة بما يسعد العيون ويملأ البطون، والآن لأن الزمن دار بي ولم يعد باستطاعتي فعل ذلك لهم، استبدلوني بمن يرضي رغباتهم تلك!
استبدلوني بسهولة كبيرة!
كأني لم أعش معهم كل تلك السنين!
كأني لم أضحي بوقتي وعمري ومالي في سبيل إسعادهم!
أشعر بخذلان كبير، ويقهرني كيف هان عليهم من أَحَبَّهُم بصدق!
غريبة هذه الحياة! وإطلاقا.. ليست منصفة، إنها ظالمة في معاييرها ومقاييسها، أسفي على من باع بثمن بخس، وأسفي الأكبر على قلبي الذي كان قربان صفقة فاشلة!
غير أنه بصدق لا يعز علي شيء أكثر من كوني أصبحت لا أحس بي، لا أشعر كيف ينقضي يومي، كيف أرحل كل يومٍ من زاوية لزاوية؟، وكيف أدور حول السرير دون وجهة أو تفكير؟!
أنظر وجهي في المرآة فلا أبصر إلا وجها شاحبا، لا ينبئ عن شاب في ريعان عمره وزهرة شبابه! أتفحصني فلا أجد فيَّ ما يستحق الحياة! لقد أصبحت تائهًا لا أعرف من أنا! وماذا أريد!
أسمع زقزقة العصافير النشيطة عبر نافذتي الزجاجية، لقد طلع الصباح إذن وبدأ النور يتسلل للغرفة المظلمة فيكشف معالمها لي!
أنا حزين لأني لا أعرف ما بي، حزين لأن الحزن أصبح قرين لي، ولأن الليل انقضى سريعا دون أن أفهم ما يدور حولي، لأن جلسة جديدة مع الذات انتهت دون نتيجة تذكر!
إرسال تعليق